فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَآتِ ذَا القربى} منك {حَقَّهُ} أي النفقة إذا كانوا محارم فقراء {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي وآت هؤلاء حقهم من الزكاة {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} ولا تسرف إسرافًا.
قيل: التبذير تفريق المال في غير الحل والمحل، فعن مجاهد: لو أنفق مدًا في باطل كان تبذيرًا.
وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه: لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوآ إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ} أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان، أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} فما ينبغي أن يطاع فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ} إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد {ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم ردًا جميلًا، فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسببًا عنه، فوضع المسبب موضع السبب، يقال: يسر الأمر وعسر مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول.
وقيل: معناه: فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم كأن معناه قولًا ذا ميسور وهو اليسر أي دعاء فيه يسر.
و{ابتغاء} مفعول له أو مصدر في موضع الحال و{ترجوها} حال {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنْقِكَ وَلا تُبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} {كل} نصب على المصدر لإضافته إليه.
وهذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف أمر باقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} فتصير ملومًا عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده وعند الناس يقول الفقير: أعطى فلانًا وحرمني، ويقول الغني: ما يحسن تدبير أمر المعيشة، وعند نفسك إذا احتجت فندمت على ما فعلت {مَّحْسُورًا} منقطعًا بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا أثر فيه أثرًا بليغًا أو عاريًا من حسر رأسه.
وقد خاطرت مسلمة ضرتها اليهودية في أنه يعني محمدًا عليه السلام أجود من موسى عليه السلام فبعثت ابنتها تسأله قميصه الذي عليه فدفعه وقعد عريانًا فأقيمت الصلاة فلم يخرج للصلاة فنزلت.
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأَن ذلك ليس لهوان منك عليه ولا لبخل به عليك، ولكن لأن بسط الأرزاق وقدرها مفوض إلى الله تعالى فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءَ} فليس البسط إليك {وَيَقْدِرُ} أي هو يضيق فلا لوم عليك {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا} بمصالحهم فيمضيها {بَصِيرًا} بحوائجهم فيقضيها.
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} قتلهم أولادهم وأدهم بناتهم {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فقر {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} نهاهم عن ذلك وضمن أرزاقهم {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إثمًا عظيمًا.
يقال: خطىء خطأ كأثم إثمًا.
{خطأ} شامي وهو ضد الصواب اسم من أخطأ.
وقيل: والخطء كالحذر والحذر {خطاء} بالمد والكسر: مكي {وَلا تَقْرَبُوا الزنى} القصر فيه أكثر والمدلغة وقد قرئ به وهو نهي عن دواعي الزنا كالمس والقبلة ونحوهما، ولو أريد النهي عن نفس الزنا لقال: ولا تزنوا {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} معصية مجاوزة حد الشرع والعقل {وَسَآءَ سَبِيلًا} وبئس طريقًا طريقه {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي بارتكاب ما يبيح الدم {وَمَن قُتِلَ مَظْلومًا} غير مرتكب ما يبيح الدم {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} تسلطًا على القاتل في الاقتصاص منه {فَلا يسْرِف فِّي الْقَتْلِ} الضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة أهل الجاهلية، أو الإسراف المثلة، أو الضمير للقاتل الأول {فلا تسرف} حمزة وعلي على خطاب الولي أو قاتل المظلوم {إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} الضمير للولي أي حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، أو للمظلوم أي الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله وينصره في الآخرة بالثواب، أو للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه كان منصورًا بإيجاب القصاص على المسرف.
وظاهر الآية يدل على أن القصاص يجري بين الحر والعبد وبين المسلم والذمي لأن أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في الآية لكونها محرمة.
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالخصلة والطريقة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي ثماني عشرة سنة {وَأَوْفُوا بِالْعَهْد} بأوامر الله تعالى ونواهيه {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} مطلوبًا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، أو أن صاحب العهد كان مسؤولًا {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ} بكسر القاف: حمزة وعلي وحفص وهو كل ميزان صغير أو كبير من موازين الدراهم وغيرها.
وقيل هو القرسطون أي القبان {الْمُسْتَقِيمِ} المعتدل {ذَلِكَ خَيْرٌ} في الدنيا {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} عاقبة وهو تفعيل من آل إذا رجع وهو ما يؤول إليه.
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولا تتبع ما لم تعلم أي لا تقل رأيت وما رأيت وسمعت وما سمعت.
وعن ابن الحنفية: لا تشهد بالزور، وعن ابن عباس: لا ترم أحدًا بما لا تعلم.
ولا يصح التثبت به لمبطل الاجتهاد لأن ذلك نوع من العلم فإن علمتموهن مؤمنات، وأقام الشارع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به كما في الشهادات ولنا في العمل بخبر الواحد لما ذكرنا {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} {أولئك} إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد لأن {أولئك} كما يكون إشارة إلى العقلاء يكون إشارة إلى غيرهم كقول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام

و{عنه} في موضع الرفع بالفاعلية أي كل واحد منها كان مسئولًا عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]
يقال للإنسان.
لم سمعت ما لم يحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ كذا في الكشاف، وفيه نظر لبعضهم لأن الجار والمجرور إنما يقومان مقام الفاعل إذا تأخرا عن الفعل، فأما إذا تقدما فلا {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} هو حال أي ذا مرح {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} لن تجعل فيها خرقًا بدوسك لها وشدة وطئتك {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولًا} بتطاولك وهو تهكم بالمختال أو لن تحاذيها قوة وهو حال من الفاعل أو المفعول {كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ} كوفي وشامي على إضافة سيء إلى ضمير {كل}.
{سيئة} غيرهم {عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} ذكر {مكروهًا} لأن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ألا تراك تقول: الزنا سيئة، كما تقول: السرقة سيئة، فإن قلت: الخصال المذكورة بعضها سييء وبعضها حسن ولذلك قرأ من قرأ {سيئة} بالإضافة أي ما كان من المذكور سيئًا كان عند الله مكروهًا فما وجه قراءة من قرأ {سيئة} قلت: كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة.
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من قوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} إلى هذه الغاية {مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} مما يحكم العقل بصحته وتصلح النفس بأسوته {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فتلقى في جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} مطرودًا من الرحمة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: {لا تجعل مع الله إلها آخر} وآخرها {مدحورًا} ولقد جعلت فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمة وإن بذ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.
ثم خاطب الذين قالوا الملائكة بنات الله بقوله:
َ {أَفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين} الهمزة للإنكار يعني أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون {واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا} واتخذ أدونهم وهي البنات وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم، فالعبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها ويكون أردؤها وأدونها للسادات {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} حيث أضفتم إليه الأولاد وهي من خواص الأجسام، ثم فضلتم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هذا القرءان} أي التنزيل والمراد ولقد صرفناه أي هذا المعنى في مواضع من التنزيل فترك الضمير لأنه معلوم {لّيَذْكُرُواْ} وبالتخفيف: حمزة وعلي، أي كررناه ليتعظوا {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} عن الحق.
وكان الثوري إذ قرأها يقول: زادني لك خضوعًا ما زاد أعداءك نفورًا {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ} مع الله {أألِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} وبالياء مكي وحفص.
{إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلًا} يعني لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلًا بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، أو لتقربوا إليه كقوله: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} {وإذًا} دالة على أن ما بعدها وهو {لابتغوا} جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل {لو}
{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ} وبالتاء: حمزة وعلي {عَلَوْاْ} أي تعاليا والمراد البراءة من ذلك والنزاهة {كَبِيرًا} وصف العلو بالكبر مبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به.
{تُسَبّحُ} وبالتاء: عراقي غير أبي بكر: {لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} أي يقول سبحان الله وبحمده.
عن السدي قال عليه السلام: «ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير لا بما يضيع من تسبيح الله تعالى» {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} لاختلاف اللغات أو لتعسر الإدراك أو سبب لتسبيح الناظر إليه، والدال على الخير كفاعله.
والوجه الأول {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} عن جهل العباد {غَفُورًا} لذنوب المؤمنين.
{وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا} ذا ستر أو حجابًا لا يرى فهو مستور {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} جمع كنان وهو الذي يستر الشيء {أَن يَفْقَهُوهُ} كراهة أن يفقهوه {وفي ءاذانهم وقرًا} ثقلًا يمنع عن الاستماع {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} يقال: وحد يحد وحدًا وحدة نحو وعد يعد وعدًا وعدة فهو مصدر سد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحدًا {وَلَّوْاْ على أدبارهم} رجعوا على أعقابهم {نُفُورًا} مصدر بمعنى التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود أي يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا.
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي نحن أعلم بالحال أو الطريقة التي يستمعون القرآن بها، فالقرآن هو المستمع وهو محذوف و{به} حال وبيان ل (ما) أي يستمعون القرآن هازئين لا جادين والواجب عليهم أن يستمعوه جادين {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} نصب بـ {أعلم} أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون {وَإِذْ هُمْ نجوى} وبما يتناجون به إذ هم ذوو نجوى {إِذْ يَقُولُ الظالمون} بدل من {إذ هم} {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} سحر فجن {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون، {فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا} أي فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقًا يسلكه فلا يقدر عليه فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع.
{وَقَالُواْ} أي منكرو البعث {أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي مجددًا و{خلقًا} حال أي مخلوقين. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وقضى رَبُّكَ} وأمر أمرًا مقطوعًا به. {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} بأن لا تعبدوا. {إِلاَّ إِيَّاهُ} لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإِنعام، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة. ويجوز أن تكون {ءانٍ} مفسرة و{لا} ناهية. {وبالوالدين إحسانا} وبأن تحسنوا، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانًا لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش، ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإِحسان لأن صلته لا تتقدم عليه. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} {أَمَّا} هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدًا ولذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل، وأحدهما فاعل {يَبْلُغَنَّ} ويدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف {يبلغان} الراجع إلى الوالدين، وكلاهما عطف على أحدهما فاعلًا أو بدلًا ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدًا للألف، ومعنى {عِندَكَ} أن يكونا في كنفك وكفالتك. {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما، وهو صوت يدل على تضجر. وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافعٍ وحفص للتنكير. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالفتح على التخفيف. وقرئ به منونًا وبالضم للاتباع كمنذ منونًا وغير منون، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الايذاء قياسًا بطريق الأولى.
وقيل عرفًا كقولك: فلان لا يملك النقير والقطمير، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإِحسان بهما. {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ. وقيل النهي والنهر والنهم أخوات. {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر. {قَوْلًا كَرِيمًا} جميلًا لا شراسة فيه.
{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} تذلل لهما وتواضع فيهما، وجعل للذل جناحًا كما جعل لبيد في قوله:
وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كشفت وَقرة ** إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا

للشمال يدًا أو للقرة زمامًا، وأمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل. وقرئ {الذل} بالكسر وهو الانقياد والنعت منه ذلول. {مِنَ الرحمة} من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما بالأمس. {وَقُل رَّبّ ارحمهما} وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما: {كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين. روي: أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبوي بلغا من الكبر أني أَلي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما. قال: «لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما».